نظمت هيئة الوفاق الفلسطيني يوم الاثنين 9 شوال 1433 هجري الموافق 27 أغسطس 2012 رومي مؤتمرًا وطنيًا هامًا حول الوفاق الإسلامي النصراني في فلسطين، وذلك في فندق الكومودور بغزة، بحضور قيادات دينية إسلامية ونصرانية بارزة، وشخصيات سياسية ومجتمعية، وقضاة شرعيين، ونواب من المجلس التشريعي، وممثلي الفصائل السياسية، والكتاب والصحفيين والمفكرين، والأسرى والمبعدين وغيرهم.
وافتتح عريف المؤتمر الدكتور جميل جمعة سلامة أمين سر هيئة الوفاق الفلسطيني المؤتمر بالتعريف بالهيئة، موضحًا أن هيئة الوفاق إطار شعبي فلسطيني يعمل على ترتيب البيت الفلسطيني برُمَّته على أساس الوفاق والشراكة الوطنية، ومعالجة كافة مكونات الأزمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، مبينًا أن المؤتمر وموضوعه جاء لتنظيم العلاقة بين المسلمين والنصارى في وطننا بعد عدة أزمات حصلت في الأونة الأخيرة وفي أنحاء متفرقة من الوطن، وكان آخرها اللغط الإعلامي حول دخول بعض المواطنين النصارى بغزة في الإسلام، وقال سلامة بأنه ينبغي أن نمتلك الشجاعة للاعتراف بهذه الأزمات ومعالجتها بدلاً من منهج القفز عنها وترك دائرة الاحتقان تتسع، مشددًا على أن فلسطين تاريخيًا مهد التسامح والعيش المشترك، وينبغي أن يتواصل ذلك مع تعزيز لغة الحوار تكريسًا لوحدتنا الوطنية ولمصيرنا المشترك، وثمَّن سلامة المسئولية الوطنية العالية لدى المشاركين لا سيما البطريرك ميشيل صباح والوفد المرافق القادمين من القدس.
وألقى الدكتور عبد العزيز الشقاقي مفوض العلاقات الوطنية كلمة هيئة الوفاق، وأكد أن الهيئة جاءت لوضع حد لحالة الانقسام القائمة في المجتمع الفلسطيني، وهي في سبيل ذلك تنشط في جميع الإتجاهات أفقيًا وعموديًا، وطنيًا وخارجيًا، وقد نظمت العديد من النشاطات والفعاليات على صعيد المصالحة المجتمعية، والأسرى، وإعادة بناء منظمة التحرير، والحياة اليومية للمواطنين، ووحدة المجلس التشريعي، والاطلاع على تجارب المصالحة والوفاق الخارجية، واتهم الشقاقي أطرافًا مجرمة تعمل على تسميم العلاقات بين المسلمين والنصارى في فلسطين داعيًا إلى التصدي لهم ولجمهم.
وفي كلمة الرئيس محمود عباس التي ألقاها الدكتور كمال الشرافي مستشار الرئيس لحقوق الإنسان والمجتمع المدني نقل تحيات الرئيس أبو مازن للمؤتمرِين ودعمه لمسيرة الوفاق الوطني، مشددًا على رعاية الرئيس للوحدة الوطنية وفي مقدمتها الوحدة بين المواطنين المسلمين والنصارى، وأكد الشرافي أن الحوار والحوار وحده ينبغي أن يكون أداة حل أي أزمة أو اختلاف.
وعبَّر الدكتور محمد عوض نائب رئيس وزراء الحكومة في غزة ممثلاً عن رئيسها الدكتور إسماعيل هنية عن دعمه الكامل للمؤتمر والقائمين عليه، مؤكدًا حرص حكومته على رعاية المواطنين النصارى في قطاع غزة وحمايتهم من أي مكروه، رافضًا الدعاية التحريضية، مبينًا أن انعقاد المؤتمر على أرض غزة ودعم حكومته له خير برهان على ذلك، داعيًا إلى المزيد من هذه اللقاءات لتنظيم العلاقة بين المسلمين والنصارى في فلسطين.
وفي ورقة العمل الأولى التي ألقاها الدكتور سالم سلامة رئيس رابطة علماء فلسطين والنائب في المجلس التشريعي عن حركة حماس أوضح أن الإسلام دين الرحمة للعالمين جميعًا، وليس للمسلمين فقط، مبينًا أن التاريخ لم يعرف على الصعيد الجماعي والفردي أي حالة إكراه أو إجبار على اعتناق الإسلام، مؤكدًا على حرية العقيدة وحق الأمن والحماية للنصارى في السلم والحرب، وقال سلامة أن الإسلام بهذا التسامح يرسم خط المواطنة التي تقوم على أسس أربعة هي: المساواة والحرية والهوية والتنمية، مُنبهًا إلى الخطر الخارجي الذي يسعى بخبث لإحياء النزعات القبلية والنعرات العنصرية والخلافات الدينية لتمزيق الكيانات الوطنية، مُشيدًا بالإخاء الإسلامي النصراني في بلادنا؛ حيث احتضنت المساجد والكنائس طلابنا الجامعيين عند إغلاق الجامعة الإسلامية بغزة، وشارك المواطنون النصارى بأشكال متعددة في الانتفاضتين بشكل يعكس وحدة الموقف ضد العدو الصهيوني، رافضًا إثارة الفتن الدينية والنزاعات الطائفية؛ لتكون القيادة من الجانبين عالمةً بما يحيك لنا الاحتلال من مؤامرات.
وفي ورقة العمل الثانية التي ألقاها البطريرك ميشيل صباح بطريرك القدس للاتين "كاثوليك" بيَّن أن العلاقة بين المسلمين والنصارى في الأرض المقدسة هي علاقة أخوة ومواطنة قائمة على العمق الإيماني، ولا يلغيها الاختلاف بين الديانتين، محذرًا من شَرك من يحولها إلى فتنة ليجعل منها عامل ضعف وانقسام، وأضاف صباح أن وحدتنا في مجتمعنا الفلسطيني تقوم على ثلاثة محاور: الوحدة الوطنية في وطن واحد، والإيمان بالله في ديانتين مختلفتين، وكلانا خليقة الله خلقًا واحدًا وكرامة متساوية، ونوَّه صباح إلى أنه مطلوب من المجتمع الإسلامي جهد خاص إتجاه الجماعة النصرانية، فما يفرض على المسلم بحكم الإسلام لا يجوز فرضه على النصراني، وحذر صباح من تنامي الصراعات على صعيد الشارع الفلسطيني بين المسلمين والنصارى، مشددًا على أهمية وجود خطاب ديني توجيهي من المساجد والكنائس.
وجاء في كلمة الكنيسة الأرثوذكسية في غزة وبالنيابة عن مطرانها والتي ألقاها الأب أندريه أن النصارى يشعرون بالحماية والمساعدة من الحكومة في غزة، ويرفضون تدخل الغرباء الخارجين عن الصف الفلسطيني الذين يتوقون لتقسيم الشعب الفلسطيني ودب الفتنة الدينية فيه خلافًا للعهدة العمرية الخالدة التي تشكل أساس العلاقة بين الجانبين الإسلامي والنصراني، محذرًا من التعصب ونشر الكراهية.
وتخلل اللقاء العديد من المداخلات الهامة من طرف المشاركين، كان منها مداخلة فضيلة خادم العلم الشرعي الشريف أبو الفضل أحمد بن منصور قرطام الحسيني المالكي الفلسطيني، حيث طالب فضيلته بضرورة إعطاء مؤسسة القضاء الشرعي حقها للبتِّ في الأمور التي تنظم العلاقة بين أبناء شعبنا، وأنه لا بد من الإنقياد للقضاء الشرعي، وخاصة المذهب الحنفي؛ بإعتباره المذهب المعمول به في القضاء، كما أثنى فضيلته على كلمة البطريرك ميشيل صباح؛ لأنها سمى الأشياء بمسمياتها، وتكلم عن الأمور بكل صراحة ووضوح وشفافية؛ حتى تستقيم الأمور وتعود لأصلها الذي كانت عليه، وأكد فضيلته على أن العهدة العمرية أصل لا يصحُّ لأحد أن يخالفه، وأن القضاء الإسلامي يقرُّ بأنه يُقضى للناس أقضية بقدر ما يقضون من الفجور، وأن الحق أحقُّ أن يُتَّبع، وأن الإنسان أسير الحُجَّة، لا القوة أو العدد أو الظلم أو القهر، كما شدد فضيلته على أن أعباء الوطن يحملها كل من ينتمي لهذا الوطن، أما أعباء الإسلام فلا يحملها إلا قضاة المسلمين لا دعاتهم، فالداعية تحت ظل القاضي كما أجمع على ذلك علماء السياسة الشرعية، فدخول أي إنسان في الدين الإسلامي لا بد من أن يثبت شرعًا عند القاضي لا غيره مهما كانت صفته، وبيَّن فضيلته أن الوقائع والنوازل التاريخية التي تُقاس عليها الأمور بين المسلمين وغير المسلمين موجودة، ولا بدَّ أن يُنظر فيها، أن أمر البتِّ بمقتضاها يعود للقضاء، وليس لأي هيئة دعوية مهما كان مسماها، فالكل يحتكم للقضاء الشرعي رئيسًا ومرؤوسًا، وفي ختام المداخلة أكد فضيلته بأن كافة فئات المجتمع تحت ظلِّ الحاكم، وإن كان من كلمة نُصحٍ فبالتي هي أحسن، وما سوى ذلك وجب أن نلتزم ديارنا ونعضَّ على أيدينا وجذوع أشجارنا، لأن هذا هو الدين، وما سواه تنطع، فلا نقوم على حكامنا وإن جاروا؛ والفتنة التي تؤدي لفتنة أكبر هي من أكبر الكبائر.
وتُوِّج اللقاء بالتوقيع على وثيقة "الإعلان الإسلامي النصراني في فلسطين"، والتي اعتبرها المشاركون أساسًا لتنظيم العلاقة بين المواطنين المسلمين والنصارى في الأرض المقدسة، فيما اعتبرها الأب مانويل مسلم عهدة عمرية جديدة، وقد وقع الوثيقة كل من الدكتور سالم سلامة رئيس رابطة علماء فلسطين عن الجانب الإسلامي، والبطريرك ميشيل صباح بطريرك القدس للاتين عن الجانب النصراني.
وفي نهاية المؤتمر قُدِّمت العديد من التوصيات أهمها: التوافق على تشكيل لجنة متابعة مشتركة إسلامية - نصرانية برعاية هيئة الوفاق تشرف على تنظيم العلاقة الوطنية بين الجانبين، وتعالج أي أزمة أو خلاف ينشب بينهما تكريسًا لروح التسامح والإخاء بين شركاء الوطن والتاريخ والقضية.